عرض المقال
إلى يوسف إدريس فى ذكرى ميلاده (1)
2014-05-19 الأثنين
لم أعشق كاتباً مثلما عشقت يوسف إدريس منذ اللحظة الأولى التى تعرفت فيها على قصصه وأنا ما زلت على أعتاب المراهقة مستنى الكهرباء الإدريسية الخفية، تيار يجتاح كيانك فترتعش، ولكنها رعشة النشوة، ويمسك بتلابيب روحك فتفزع، ولكنه فزع من اكتشف السر، لغة بِكر كطمى النيل، وحكى مشوق كحديث الجدة الريفية، وقدرة هائلة على اصطياد القلب منذ الحرف الأول وكأنه صياد العصر الحجرى يغرس رمحه فى قلب المجهول تحرقاً للكشف، وكسراً لحاجز الخوف فى نفس الوقت، ولقطاته هى عصير الحياة المصرية المستعصية على كاميرات من يتعاملون مع الوطن بمنطق الرحالة، ومع الكتابة بمنطق السياحة، ومع القصة بمنطق الكارت بوستال. منذ تلك اللحظة وأنا أتطلع للقائه حتى جاءت المناسبة والتى اكتست بملامح المأساة، مأساة مثقف مصرى أراد التعبير عن وجهة نظره فنهشت كبده الذئاب فلم يتحمل القلب فأصابته الذبحة، وكانت بالفعل اسماً على مسمى وكانت مناسبة الذبح إصداره كتاب «البحث عن السادات» والذى هاجم فيه التعامل الساداتى مع أحداث الثغرة، وعدم استغلاله للإيقاع السريع والمباغت لأيام الحرب الأولى، وقامت القيامة وتنكّر له الأصدقاء قبل الأعداء، واستعدى عليه الجميع، انقلبت عليه السلطة حتى أعلى مستوياتها، طعنه المثقفون ومثّلوا بجثته، فلم يجد، وهو النجم الساطع، إلا صفحات جريدة «الأحرار» لكى يدافع فيها عن نفسه، وأصاب الخرس لسانه وقلبه، وعندما ذهبت أنا ومجموعة الأصدقاء إلى مستشفى مصر الدولى للسؤال عنه أخبرونا بأنه قد خرج بالأمس، فذهبنا إلى عمارة الهلالية رقم 100 شارع النيل الدور الخامس شقة 23، حيث استقبلتنا زوجته الرقيقة السيدة رجاء والتى تأكدت حين رأيتها أنها الوحيدة فى هذا الكون التى تستطيع أن تتزوج من هذا البركان، وأن تتحمل لهيب حممه وتتكفل بترويض جموحه، دخل علينا ببنيانه ووجهه الشاحب، عيناه ذكيتان بجفون نصف مغلقة على الدوام وكأنها فى إطلالة مزمنة على الداخل، كفه ضخم وبه ورم خفيف وكأنه مستعد للطم والمشاجرة، جلس يحكى لنا تجربته مع الطب بعد أن عرف أننا فى مرحلة الامتياز بقصر العينى، وفى منتصف الحديث صمت فجأة ليخرج لنا برقية أرسلها له صديق يتشفى فيه، الصديق صحفى كبير كان فى المطار ولم يصبر حين عرف أن يوسف إدريس شبه معزول بقرار غير رسمى فأرسل له بهذه البرقية، سبه إدريس وسب أمه، وعرفت أنه فى غابة الصحافة من السهل استفزازه واصطياده، وأخذ يفسر لنا لماذا خرج هيكل من معركة «خريف الغضب» سالماً بل غانماً، وخرج هو من معركة هذا الكتاب مثخناً بالجراح، بل مذبوح الصدر والشريان، وعرفت أنا السبب، فالأول صحفى محترف، والثانى فنان بكل ما تحمله هذه الصفة من طيش وجنون وحماقة وخيال وجموح ونرجسية وخروج عن المألوف ورفض للبراويز والإطارات المُحكمة، الفرق ببساطة أن هيكل يغمس قلمه فى فص المخ الأيسر ويستمد مداده من سائل النخاع الشوكى، أما إدريس فقد كان يغمسه فى الشريان ويكتب بعصير روحه وأعصابه وأسلاكه العارية على الدوام. قال له توفيق الحكيم ذات يوم «الفرق بيننا وبينك أننا أدباء نكتب عن الفن أما أنت ففنان تكتب القصص والأدب»، إننى أتصور أنه فى يوم 19 مايو 1927 وفى قرية البيروم بمحافظة الشرقية ولدت كاميرا بشرية اسمها يوسف إدريس، كاميرا مشحونة على الدوام، عدستها مفتوحة باستمرار، تلتقط بوضوح وحدَّة، لا تفرق بين وهج النهار وسواد الليل، تستطيع أن تتحول إلى مرصد فتلتقط أسرار الكون، وتستطيع أيضاً أن تتضاءل حتى تصبح بحجم الإلكترون فتطّلع على ما يجرى فى مجاهل الخلايا البشرية وأحراش النفس الإنسانية، ساعده على ذلك سفر والده الدائم نظراً لظروف عمله فى استصلاح الأراضى، وفى القرية عاش أحلام اليقظة ولمس عن قرب كل المسكوت عنه وكشف المستور، فالقرية صريحة ترفض مساحيق التجميل وعمليات شد الوجه، يكفى أنه تعرف على المرأة فى سن الرابعة عشرة ودخل فى هذه السن المبكرة عالمها الغامض بكل حسيته ونشوته، ومن الشرقية إلى دمياط إلى المنصورة ومع والده الذى كان يطوف بأرجاء المحروسة عرف أن مصر امتداد بلا حدود، وعمق بلا قرار، أحب هذا الوطن واكتوى بناره أيضاً، ترك الطب والجراحة وتشريح الجسد ليتفرغ للفن والأدب وتشريح الروح، فضّل أن يعالج آلام الوطن بدلاً من علاج الفرد، لكنه فى النهاية صرّح فى بعض المقالات بأنه ينظر إلى أصدقائه الحميمين مثل د.البنهاوى وسامح همام نظرة حسد فى بعض الأحيان لأن مرض الإنسان غالباً ما يشفى ولكن مرض الوطن عندنا لا شفاء منه!!!.